الغوص في الذاكرة

أدبية ، ثقافية، علمية، ملخصات كتب وروايات، أفضل ما قرأت من الكتب والروايات.

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

أسفل السافلين: عزيز نيسين

عزيز نيسين كاتب تركي له كتابات ساخرة تنتقد الوضع السياسي والاجتماعي بطريقة راقية وجميلة. ومن هذه المجموعات القصصية 

أسفل السافلين،  الاضراب الكبير، الكرسي، يسلم الوطن، وغيرها وهذه قصة من كتاب أسفل السافلين:

أسفل السافلين: عزيز نيسين


هكذا انتحرت

الكتابة عن حوادث الانتحار غير مسموح بها عندنا في الجرائد، لكن الحديث هنا يجري عني أنا. ولهذا أرجو من السلطات الرسمية المشهورة بوجهات نظرها الجدية المتطرفة أن تكون سعيدة لدى سماعها قصة انتحار إنسان تافه مثلي.

منذ مدة أصبت بهوس الانتحار، وقد استقرت في رأسي فكرة عنيدة ( هيّا أسرع إلى العالم الآخر). ولأول مرة في حياتي أتجاسر قائلا لنفسي ( إيه أنت أيها المعذب، أية طريقة تختار لنفسك؟ بالمسدس؟  بالخنجر؟ اختر. الموت هوالموت، أما أنا فمن المعجبين بالطريقة الكلاسيكية لذلك قررت أن أنتحر بالسم. اشتريت سماً قاتلاً، حبست نفسي في الغرفة ثم كتبت بسرعة رسالة رومانسية طويلة اختتمتها بالكلمات التالية: وداعا للحياة القلقة، وداعاً للمصير الخائن،  وداعا لكم جميعا.. بعد ذلك تجرعت الكأس من السم، واضطجعت على الأرض منتظرا تشنج يدي وساقي وتورم عروقي وتحلل دمي، لكن شيئا من ذلك لم يحدث. عندئذ تجرعت كأسا ثانيه وثالثة.. لكن بدون أية نتيجة. على ما يبدو أنهم في بلدنا لا يخلطون الحليب بالماء، والزيت بالشوائب، أو يضعون الجبنة الفاسدة فحسب، بل حتى السم يغشونه. ترى هل يعقل ذلك؟ حتى الانتحار بطريقة مهذبة غير مسموح به؟

أنا واحد من أولئك الذين بدؤوا بعمل يسيرون به حتى النهاية. لذا قررت الآن أن أطلق النار على نفسي. حصلت على بندقية ووضعت فوهتها على سالفي وضغطت على الزناد..  وضغطت مرة ثانية.. وثالثة.

 لقد تبين أن البندقية هي واحدة من تلك الأسلحة التي نحصل عليها كمساعدات عسكرية من أمريكا. إذ كان ينقصها شيء ما. إذاك قررت أن أموت موتا محتما، وذلك عن طريق الاختناق بالغاز. يقال إن الموت بالغاز يعد شاعريا للغاية. فتحت صمامات أنبوب الغاز حتى النهاية، وسددت كل ثقوب الغرفة كي لا يتهرب الغاز منها، ثم ارتميت على الكرسي منتظر ملك الموت عزرائيل عليه السلام. انتصف النهار وغابت الشمس وأنا لا أقدر على طرد روحي من جسدي. وفي المساء أتاني أحد الأصدقاء.  صرخت به إياك والدخول!

- ما بك؟

- إنني أموت.

- إنك لا تموت، بل تفقد عقلك.

وعندما حدثت صديقي عن مشروع الانتحار قهقه قائلا يا لك من مغفل! ألا تعرف أن أنابيب الغاز عندنا غير مليئة بالغاز، وإنما بالهواء الطبيعي.. لكن قل لي، هل حقا تريد أن تنتحر؟

-طبعا.

- سأقدم لك خدمة أخوية. إليك نصيحتي: اشتر خنجراً واطعن به أحشاءك بسرعة كساموراي الشجاع.

 شكرت صديقي على نصيحته الأخوية، ثم هرعت إلى الشارع واشتريت خنجرا عملاقا. في الحقيقة لم أكن تواقاً للموت بإخراج أحشائي من مكانها، لأنني كنت أخجل من الأطباء الذين لن يعثروا في معدتي على أي أثر للطعام، عندما سيشرحون جثتي. هكذا كنت أفكر عندما اقتربت من البيت. وهنا لا أدري من أين هبط شرطيان فوق رأسي. صرخت: أيها السيدان، اسمعاني، أولاً.. أنا أدفع الضرائب بانتظام، ثم إنني لا أنتقد الحكومة أبداً. ولن تروا إنسانا شريفا مثلي.

قاطعني أحدهم وهو يخرج الخنجر من جيبي: وما هذا؟

لقد بوغت تماما كما يحصل للمجرمين عندنا. سرحت في أعماقي.

- يا إلهي، ما هذا؟ حتى الموت غير مسموح به.. وهل يمكن العيش بعد هذا كله؟

 أنا إنسان قوي الإرادة، وإن عزمت على فعل شيء، فإنني سأفعله لا محالة. اشتريت حبلا غليظا وقطعة صابون، ربطت طرف الحبل بسقف الغرفة، وجعلت من الطرف الثاني العقدة. دهنتها جيدا بالصابون وأدخلت رأسي بها وأنا أتذكر دائرة الضرائب. ركلت الكرسي برجلي و وجدت نفسي مرميا على الأرض.. على ما يبدو أن الحبل كان بالياً..

 ذهبت أشتكي للبائع، أما هو فأجابني: لو كان ذلك الحبل صالحا للاستعمال، فهل يعقل أن أبيعك إياه؟

 فهمت الآن أن الموت غير مكتوب على جبيني.

- حسن.. سأعيش إذاً.. كما هو معروف أن الحياة تبدأ بملء البطون، وأنا أعشق البيض المقلي مع المرتديلا. دخلت إلى المطعم وأكلت البيض المقلي مع المرتديلا، ويبرقاً معلبا و صحنا من المعكرونة.

 خرجت من المطعم مترنحاً، ثم دخلت محلا لبيع الحلويات وهناك التهمت أربع قطع من الكاتو. تقدم بائع الجرائد من طاولتي وهو يصرخ 16 صفحة، لن تقرأها بالتأكيد، اصنع منها أكياساً.. أنا عادة لا أشتري الصحف شبه الرسمية، لكنني اليوم سأشذ عن القاعدة، وما إن بدأت بقراءة الافتتاحية حتى نمت. أيقظني ألم حاد في معدتي، كما لو أن أحدا طعنني بخنجر ملتهب. لم أحتمل الألم. رحت أزعق كالمذبوح.

نقلت بسيارة الإسعاف إلى المستشفى، وفي الطريق أغمي عليه، وعندما عدت إلى رشدي، وجدت الطبيب يقف بجانب سريري وهو يسألني: هل سممت؟ على المريض أن يكون صريحا مع طبيبه، اعترف، هل حاولت الانتحار؟

-أخ يا دكتور للأسف؟

 -هناك تسمم، ماذا أكلت؟

- مرتديلا..

- أحمق.. اقرأ الجرائد.. فالمستشفيات مليئة بالمسممين بالمرتديلا.. لكن تسممك من نوع آخر.. ماالذي أكلته أيضا؟

-ذهبت إلى المطعم..

-هل جننت؟

- أكلت يبرقاً معلباً..

- يا حبيبي! وماذا أيضاً؟

-معكرونة.. وأربع قطع كاتو..

- معكرونة وأربع قطع كاتو.. وماذا بعد؟

- أقسم لك لا شيء بعد.. ثم قرأت الصحيفة شبه الرسمية..

 زعق طبيب: ماذا؟ قرأت الصحيفة شبه الرسمية؟ أحمد ربك لأنك لا زلت حياً..  لقد نجوت بأعجوبة.

وعندما خرجت من المستشفى رحت أفكر: لا بأس .. ما الذي علينا فعله؟ فهم لا يسمحون لنا بالعيش، ولا حتى بالموت، يسمحون لنا بالبقاء فقط.

عن الكاتب

mkm

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

الإرشيف

Translate

جميع الحقوق محفوظة

الغوص في الذاكرة