الغوص في الذاكرة

أدبية ، ثقافية، علمية، ملخصات كتب وروايات، أفضل ما قرأت من الكتب والروايات.

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الجنسية: معتز قطينة

 

بين جدة والقدس يعيش البطل التمزق في الانتماء. هل ينتمي إلى جدة حيث ولد وعاش، أم إلى القدس التي رباه أهله على أنها وطنه؟ وما يزيد بؤس هذا التمزق هو أنه غير مقبول لا هنا ولا هناك. الحكومة الإسرائيلية تسقط عنه حقه في العيش لأنه مهاجر، فلا يستطيع العودة حتى لو شاء، وفي جدة لا يستطيع الحصول على الجنسية ولا على حقوق العيش كمواطن حتى لو اختارها كوطن.


الجنسية: معتز قطينة


اقتباس1:

" كنا في الصيف لكي نسافر إلى القدس، نذهب إلى عمان أولاً، قنطرة العبور الوحيدة إلى القدس، نقضي أياماً قليلة تكاد لا تكفي لنطمئن على اقاربنا هناك، ومنها ننطلق إلى الجسر! الجسر كلمة مرعبة للصغار، تشبه أن يضعهم أحد في غرفة مظلمة ويصرخ ضاحكاً بأعلى صوته بلا سبب، ويستمر في الضحك! إنها الكلة الأكثر إزعاجاً لطفل في الخامسة من عمره يعرف انه مضطر لعبوره باتجاه فلسطين، إذ يعني هذا أن يستيقظ في الثالثة صباحاً، ويقطع مسافة ساعتين بالسيارة مروراً بمناطق منخفضة الضغط تسبب ألماً لأذنيه، يا لعذابات الصغار: انسداد الأذنين والنوم القليل، والمزاج العكر بالطبع! لم نصل بعد للعذاب الأكبر، حيث يقف مئات الفلسطينيين، مثل الدجاج بانتظار إنهاء إجراءاتهم في الجانب الأردني من الجسر، عليك أن تتحمل الروائح المزعجة للناس الذين لم يستحموا منذ سنوات، وأن تتغاضى عن أكوام النفايات التي تنثرها قبائل البسر المكومة منذ الفجر عند الجسر، وهناك الموظفون الحكوميون الذين يحملون أبواقاً روسية في حناجرهم، ينادون بها على أسماء العابرين وهم جميعاً على نفس الشاكلة تقريباً: يرتدون بنطلونات داكنة رمادية أو بنية غالياً، ومن ذات القماش الذي يشبه الخيش، قمصانهم مقلمة مثل قمصان الفلسطينيين، أو بها مربعات مبللة بالعرق. إنهم صلع أيضاً وكلهم سمر معقودو الحواجب والجباه، ذوو شنبات ضخمة تغطس فبها أنوفهم وتختفي تحتها شفاههم العلوية مما كان يدهش طفولتي ذلك الوقت هو أنهم أجمعين بلا استثناء يتحدثون بطريقة بعيدة عن التأدب، لا يحترمون عجوزاً ولا يرفقون بطفل ولا يوقرون كهلاً يعتذر إليهم على قلة تهذيبهم. تتقدم منه امرأة ترتدي جلباباً كحلياً ثقيلاً ومنديلاً ابيض فوق رأسها تستعطفه، كانت تشبه الأمهات. وتطلب منه السماح بركوب الباص الذي استقله زوجها ذاته، وحين امتنع بحجة القانون صاحت به امرأة عجوز: الله لا يسامحك لا أنت ولا قانونك! جن جنون صاحبنا وأطبق على يدها قائلاً إنه يمثل مقام صاحب الجلالة على الجسر! وإنها بكلامها أنما تسيء إلى الذات الملكية، واخذ يسحبها نحو أحد مكاتب الجسر لتوجيه التهمة رسمياً، لولا أن اعتذر إليه الواقفون وطلبوا إليه أن يتركها لحالها. وافق بعد أن أذلها ومسح بكرامتها بلاط الجسر المليء بالفضلات وجيوش الذباب الأزرق، وبعد أن انفجر أبناؤها الصغار في نشيد من البكاء .. صغار الناس يعشقون السلطة حتى لو كانت بسيطة، حتى لو كانت بلا مقابل يستحق، لو دخلت تلك المرأة إلى السجن بالتهمة التي رماها بها، لربما كانت قابعة إلى الان خلف قضبانه، ولربما تعرضت إلى كافة أنواع التعذيب، والسبب أن الحاجب المكلف بمناداة الركاب سمح لنفسه بالنطق باسم أعل نموذج خطر له وأراد ان يشعر قليلاً باللذة الملكية!"

 

اقتباس2:

" حينما كان الجندي الإسرائيلي ينهي على عجل إجراءات المرور، كانت أمي تؤكد أن الزحام في انتظارنا ودائماً يصدق تأكيدها، لقد احتجت وقتاً طويلاً لأتجاوز تلك الصور المتراكمة  في ذاكرتي عن المهانة التي يتعرض لها الفلسطينيون عند عبورهم إلى أرضهم، وأظنني اتخلص منها تماماً بين ما اذكره عن سويعات الجسر المتكررة: لا بد أن القاعات العملاقة تلك، كانت كبيرة بما فيه الكفاية لتستوعب الأعداد المهولة التي كانت تمر يومياً. اسقف زرقاء يتقشر طلاؤها، ومراوح رديئة للتهوية. مجندون ومجندات ببزات زيتية، غرف للتفتيش الرجالي ومثلها للنساء. يضع الجميع حقائبهم لتمر في الأجهزة الإلكترونية، لتكشف على محتواها. ويخضع الرجال والنساء والأطفال على حد سواء للتفتيش الجسدي. لأنه لا يشبه المتداول عن المصطلح نفسه في أذهان العالم: يعني هذا أن تدخل غرفة مساحتها متراً مربعاً واحداً وتخلع ملابسك بالكامل، عارياً كما سقطت من الرحم إذا كان الجندي رجلاً أو امرأة خجولاً فإنه سيسمح لك بأن تظل مرتدياً سروالك الداخلي، النساء يفتشن النساء والرجال يفتشون الرجال ينبشون ملابسك خيطاً خيطاً ويمررون على جسدك جهازاً كاشفاً يضعونه تحت إبطك وبين فخذيك، بين صدور النساء وتحت أعضاء الذكور، لا بد ان الشواذ والسحاقيات منهم يبتهجون بعملهم في هذه الوظيفة، فهي توفر لهم متعة لا متناهية من التغيير، ورؤية اشكال مختلفة في كل لحظة!"

 

اقتباس3:

"ربما لم أفهم معنى أن يعيش الواحد بعيداً عن وطنه، من دون أمل بالعودة إليه. فلا يستطيع أن يخرج المفتاح المخبأ في خزانته، مفتاح داره التي تركها في فلسطين، والتي ربما يسكنها غيره الآن او صارت جزءاً من مستوطنة صهيونية، فاصبح صغار السكناج يلعبون في حديقتها. وصارت شجرة الزيتون التي غرسها ورعاها بعرقه ويديه المكان المفضل كي تقيم تحتها طالبات يهوديات حفلهن الخيري كل موسم. ربما لم أكن متألماً بما يكفي لأشعر بمثل ما شعر به اهلي، لكني جربت الحنين إلى الأرض التي احتضنتني وذقت لوعة البعد عنها. كانت كأس الأشهر الثلاثة مترعة بالوجع والقلق، وربما الخوف من عدم العودة"

 

عن الكاتب

mkm

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

الإرشيف

Translate

جميع الحقوق محفوظة

الغوص في الذاكرة