التعود على وحشية العالم:
لنقرأ هذا المقطع من رواية ( من وراء القضبان ) لكارل تشيسمان:
.. واكتشفوا هو وزملاؤه في هذا القطاع آلاف الجثث
اليابانية ممزقة ومتحللة. وكان النتن الهائل المتصاعد منها يمنع هؤلاء من الراحة
والنوم والأكل. بعد ذلك ألف الرجال ذلك وصاروا يستخدمون رؤوس اليابانيين بعد
معالجتها بحيث يكشفون الجمجمة الملساء الملتمعة يستخدمونها زينة لمكاتبهم.
وفي التفاصيل التي نشرت عن الرياضيين الذين تحطمت
طائرتهم في جبال الأنديز شيء آخر، فبعد أن انتهى كل ما لدى الناجين من طعام وهم
محاصرون في تلك الجبال الجليدية تحت العواصف الثلجية نصحهم أحد زملائهم وهو طالب
طب أن عليهم أن يتناولوا البروتين لكي يتمكنوا من مقاومة البرد ومن البقاء على قيد
الحياة. وليس هناك أي مصدر لهذا البروتين إلا جثث زملائهم وأهلهم الذين قتلوا في
الحادث، كما أن عليهم الإسراع بنبش الجثث لأن تراكم الثلوج وضعفهم المتزايد
سيزيدان في صعوبة الوصول إلى هذه الجثث.
وحينما جاءت طائرة النجدة ورأى الطيار عظاماً
كثيرة متناثرة هاله المنظر واستغرب لأنه لم يتعود.
هل تعودنا نحن على أمور غير مقبولة؟
كم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا
بإنسانيتنا حتى صرنا نتعود الإذلال المحيط بنا، لنا ولغيرنا؟ حتى صرنا نقبل هذا
العنف والتعامل غير الإنساني. الذي نعامل نحن به أو يعامل به غيرنا على مرأى منا
في الحياة، أو حين نقرأ عنه، أو نراه على شاشات التلفاز.
وسنتجاهل أننا نحن نعامل غيرنا أحيانا بهذه
الطريقة: أولادنا، مرؤوسينا أو الذين يقعون بين أيدينا من أعدائنا مثلاً. أو
السجناء الذين بين أيدينا.
وينعكس تعودنا على هذا الإذلال. في أننا صرنا نعدّ
تعذيب السجين أمر مفروغ منه. لم نعد نتساءل عن أثر ذلك التعذيب في السجين الضحية،
حتى بعد خروجه من السجن. كما أننا لم نعد نتساءل عن أثر التعذيب في منفذه، وهل
يستطيع بسهولة أن يعود إلى حياته اليومية العادية بعد خروجه من غرفة التعذيب، كما
لو أنه خرج من المرحاض لكي يستأنف حياته.
التوصيف
أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حراً أن ترده، أنت
تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه، ولا حرية لك ولا قدرة لديك على رده،
هناك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب.. لا مجرد الألم الموضعي للضربة..
إنما بألم الإهانة. حين تحس أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه معها ضربة أخرى
إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك، ضربة ألمها مبرح لأنها تصيب نفسك من الداخل.. الضرب،
ذلك النوع من الضرب حين يتحول المضروب إلى أنقاض إنسان مذعورة، أنقاض تتألم، وبوعي
تحس نفسها وهي تتقوض إلى أسفل. وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد، ويتحول
فيها الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر. وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى، يسعده الألم
الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة. وبإرادة أيضا يقتل الاستجابة البشرية
للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم، والتقوض، وبلوغه هو أخس
مراحل النشوة المجرمة.
التعذيب عند السلطة:
تلجأ السلطات إلى التعذيب
عند اعتقال عناصر شبكة معينة (سياسية أو إجرامية)، لمعرفة بقية العناصر وأسلوب
العمل والمتعاونين، وأماكن الاختباء، وأسلوب التواصل.. هذا يعني أن هناك شخصا لديه
معلومات لا يريد الكشف عنها، وهناك طرف يريد انتزاع هذه المعلومات ولو بالقوة. تشتمل
هذه القوة على التعذيب بكافة أنواعه التي ابتكرها الإنسان في مسيرته الحضارية. إنها
معركة بين صمود صاحب المعلومة وقدرته على تحمل الألم، وبين المحقق وجماعته الذين
يوقعون بالمعني أصناف الآلام.
الاعترافات المأخوذة بهذه
الطريقة ليس لها صفة قانونية. فالتعذيب قد يضطر من يتعرض له إلى الاستجابة لطلبات
المشرفين على التعذيب بتحمل مسؤوليات لا علاقة له بها أصلاً، وربما اضطر إلى
اختلاق معلومات لكي يخفف التعذيب عن نفسه، ولو إلى حين.
لكن السلطات التي تمارس هذا النوع من التعامل لا
تهتم بتصنيف تعاملها من الناحية القانونية أو الأخلاقية.
يحدث امتزاج بين طلب
المعلومات والرغبة الخالصة في الإيذاء وإيقاع الألم والرعب، ويصل الأمر أحيانا إلى
نسيان سبب التعذيب، فيظل التعذيب هدفاً ووسيلة وغاية مستقلة.
ويحار ضحية التعذيب في
وسيلة للخلاص منه، فلا الاعتراف يكفي، ولا الاستسلام حتى مشارفة الموت يكفي.
يصل الضحية إلى درجة
الاستعداد لتبني أي جريمة تنسب إليه أو يراد منه تبنيها.
ومن أجمل الشهادات على
مواقف من هذا النوع، ما ورد في رسالة ما ير خولد إلى مولوتوف قبل
إعدامه. يقول: وجدت نفسي منفصماً إلى شخصين، الشخص الأول يحاول أن يعثر على أثر
للجرائم التي يتهم بها فلا يجد، والشخص الثاني يخترع الجرائم حين يعجز الشخص الأول
عن اختراعها، وفي هذا المجال كان ضابط التحقيق يقدم لي عونا لا يقدر بثمن حتى رحت أنا
وهو، نخترع معاً في عمل ثنائي ناجح، وهكذا حين كانت مخيلتي تعجز عن اختراع الجرائم
كان المحققون يهرعون لنجدتي.
ولأن للجسم البشري حدوداً
لاحتمال الألم فقد يعترف الكثيرون لعدم قدرتهم على الصمود أمام الكم الهائل من الألم
وأول دفاع للجسم هو الإغماء والذي يليه الموت.
وسواء خرج ضحايا التعذيب
أصحاء أم مشوهين جسديا فما الذي يحدثه هذا التعذيب فيهم من الداخل؟
ولا ننسى أيضا الجلاد الذي
يمارس التعذيب ليس هو في كثير من الأحوال من يطرح الأسئلة، إنه يقوم بالتعذيب فقط،
وعند وصول الضحية إلى الاستسلام يتم أخذ هذه الضحية إلى حيث تدلي باعترافاتها أمام
المسؤول المعني الذي ربما حضر حفلات التعذيب، وربما لم يحضرها.
ولكن كيف يقوم الجلاد
بعمله؟ ولماذا؟ وبماذا ينعكس عليه؟
إلى أي مدى يمكن أن يصل
الإنسان في إيقاعه الأذى بإنسان آخر، أو تسبيب الألم له؟ وهو الذي لا تربطه به أي
رابطة سلبية أو إيجابية.
مجزرة صبرا وشاتيلا مثالاً:
يتم توزيع المسؤوليات كما
حدث في هذه المجزرة التي حدثت بين 16 و18 أيلول من عام 1982م. فمن متابعة الأقوال والتصريحات
بعد اكتشاف الأمر تبين أن المجزرة التي استفرد فيها مسلحون صهاينة وكتائب بأهالي
المخيمين العزل طوال 36 ساعة قد تم
الإعداد لها على النحو التالي:
- إجبار المسلحين الفلسطينيين على الانسحاب من بيروت والمخيمات من أجل
أمن إسرائيل كهدف معلن للغزو الذي تم منذ أول شهر حزيران حتى منتصف شهر أيلول عام
1982 وعرف باسم اجتياح بيروت مقابل تعهد دولي لحماية المدنيين العزل في بيروت
والمخيمات.
- مقتل بشير الجميل الذي حاولت إسرائيل فرضه رئيساً للبنان في ظل
الاحتلال الإسرائيلي.
- الجيش الإسرائيلي يدخل بيروت الغربية لمنع الكتائب من القيام بعمليات
انتقامية كما أعلن المسؤولون الإسرائيليون. وكان هذا يعني حرفيا حماية المدنيين
الفلسطينيين والمسلمين العزل في بيروت الغربية من انتقام الكتائب.
- تطويق المخيمين صبرا وشاتيلا من قبل القوات الإسرائيلية.
- السماح لمسلحي الكتائب بالدخول إلى المخيمين بذريعة البحث عن
الفدائيين الفلسطينيين الذين تركتهم منظمة التحرير وراءها.
- الجنود الإسرائيليون لم يفعلوا شيئا حسب تصريحات قادتهم، إلا منع
خروج أحد من المخيمين ومنع دخول أحد إليهما بعد دخول مسلحي الكتائب.
- المساعدة الإضافية الوحيدة التي قدمها الإسرائيليون هي إلقاء القنابل
المضيئة ليلاً على المخيمين.
إذاً هي
توزيع المسؤوليات على الجميع لتضيع الجريمة بين هذا وذاك والسبب والمسبب...
من كتاب حيونة
الإنسان لممدوح عدوان