في الستين
منذ وصل محمود إلى تركيا وهو يشعر في نهاية كل أسبوع أنّ قطار العمر يحثّ الخطا بشكلٍ لم يعهده من قبل. ربما كان قد أتمَّ الثالثة والخمسين حينها، ولكنّ السنوات السبع الماضية جعلته أكثر هرماً.
اليوم يعيش وحدة حقيقة في استنبول رغم كل وسائل الترويح عن النفس، فكثير من الحدائق الجميلة حوله، وشارع رئيسي متخم على جانبيه بالمحلات التجارية والمولات والمطاعم، والناس تتحرك في كل الاتجاهات، وكذلك السيارات التي قلّما تهدأ حركتها قبل منتصف الليل.
في هذه الحديقة تحطّ عشرات من طيور الحمام في بقعة دائرية صغيرة أحيطت بالمقاعد لراحة الناس، تُزَوَّد هذه البقعة بالماء وبقايا الخبز والطعام لجذب أسراب الحمام البلدي والعصافير التي تتنافس فيما بينها لالتقاط حبات طعامها. تلاحق نظراته حمامة تتميز بلون ريشها الأبيض عن هذه الجموع الرمادية والمائلة إلى الزرقة، تتحرك بحرية وثقة، ومنسجمة مع من حولها.
كانت تبدو أفضل حالاً منه، فما زال أعرج اللغة في هذا المجتمع الذي لا يُعرَف
فيه العدوّ من الصديق، بعد ازدياد مظاهر العنصرية التي تؤجج المعارضة رمادها كلّما
سمحت لهم الفرصة، والتي أدّت إلى ارتكاب بعض الجرائم في ولايات مختلفة، عدا عن
التضييق الذي بات يلاحق كلَّ مَنْ هو تحت الحماية المؤقتة، بل كلّ مَنْ هو غريب عن
هذه البلاد، حتى مَنْ حصل على حقّ المواطنة مثل محمود.
باتت بدايات الشتاء تثبث ذاتها، فإن غاب المطر فالغيوم
تربك ظهور الشمس، ليزداد همس برودة الصباح والمساء، وليربك ذلك خروج مَنْ كان
عاطلاً عن العمل. أحياناً يفضّل أن يوصف نفسه بأنه مدرس متقاعد، وهذا كان يمكن أن يحدث
فعلاً منذ شهرين بعد أن أتمّ الستين من عمره، على فرض أنّه لم يُطرد مع الملايين مثله
من سوريا التي كان يعتقد أنها الوطن.
تحتضنه غرفته الضيقة، ويتبادل
أفكاره ووساوسه مع حاسوبه وهاتفه النقال،
حتى تأتي اللحظة التي لا يعرف فيها ماذا يفعل، إذ تسرح أصابعه على مفاتيح الحاسوب
كيفما اتفق، ويضيع تركيزه في زحمة الأفكار، فلا يبقى له إلا أن يحثّ نفسه لإنهاء
الجلسة في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وينام خلال دقائق معدودة.
قبيل الظهر يستعد للصلاة في الجامع القريب، ثم بعد ذلك ينطلق إلى حديقة تتميز بطريق دائري مفروش بما يتناسب مع رياضة المشي، فينخرط مع من سبقوه من رجال ونساء من مختلف الأعمار يسعى وراء لا شيء في هذه الدائرة اللامتناهية، وبعد أن يصل إلى مرحلة التعب يجلس على أحد المقاعد يعبث بهاتفه النقال ويراقب الناس من حوله.
يصل إلى مسمعه حديث فتاة يختلط بضحكاتها الملفتة، فلا يتمكن من تجاهل تلك الضحكات، فنظر حوله فرأى على يمينه وعلى بعد حوالي عشرين متراً فتاة في العقد الثاني وهي تحتضن شاباً من عمرها. لم يكن يسمع حديث الشاب أو حتى صوت ضحكه ولكنّه كان يبادلها القبل على الشفاه حيناً وينظر إلى وجهها حيناً أخرى.
عاد إلى النظر في شاشة هاتفه النقال وكلّه رغبة في متابعة النظر إليهما
مستنكراً تلك الجرأة من فعلهما أمام خلق الله. قال في نفسه: إنه الشباب وقد هرمنا
كما قالها الرجل التونسي أثناء الثورة على الرئيس زين العابدين، فمنذ ذلك الحين
نسي لذة الحياة وبات كل شيء في ذهنه يتعلق بالبحث عن الاستقرار وتأمين لقمة العيش
والبقاء في كرامة له ولعائلته.
شاغل نفسه بالعبث بالهاتف
ولكن الصوت مازال يصل إلى مسمعه بنفس الوتيرة، ودافعٌ من داخله يقول له انظر
إليهما من خلال شاشة الهاتف التي أصبحت كالمرآة بعد إغلاقها، ولن ينتبه إليك أحد.
تابع اختلاس النظر حتى تركا مقعدهما متأبطين إلى خارج الحديقة. شيّعهما بعينيه ثم
لقي نفسه ينهض ويتابع رياضة السير في الدائرة حتى رأى أن يغادر هو الآخر ويعود إلى
غرفته الصغيرة.
حاسوبه هو الصديق المفضل في وحدته، والذي يمكنه أن يتبادل معه الأسرار والأفكار. قلّما يجد صفحات الفيسبوك خالية من النعوات أو بث الذكريات.
كتب
أحدهم: " أنا هنا أقتات ذكرياتي،
أتلمس جنبات غرفتي التي كانت تفوح من حيطانها رائحة الحوّار حتى لو لم يُرش عليه
الماء. أنفض عن ثوبي ما علق به من تراب المصطبة.. ألوم نفسي لِمَ فعلتُ ذلك، فلم
أكن أدرك أنه سيأتي يوم أُحرَم فيه حتى من تراب مصطبة بيتنا".
لقد ترك بيته الوطن ليصبح مشرداً في خيمة، إنها معاناة
النازحين. هذا الكلام أنعش ذاكرته التي كان يحاول خلال السنوات السبع الماضية أن يشغلها
عن تذكر الماضي، لتصل إلى مرحلة من البلادة، تمكنه من العيش بهدوء وسلام بقية عمره
دون اضطراب نفسي أو دون مرض ينهك جسده حتى الموت. ولكن الكبار في السن يعودون إلى
تذكر طفولتهم والحديث عن فترة شبابهم. ربما تذكر حسرة على سعادة مضت، أو ندم على
فعل، أو توجع من ألم، أو كلّ ذلك يوماً بيوم.
ماشاء الله .. رائع
ردحذفممتن
حذف✨✨✨
ردحذفممتن
حذفممتاز بالتوفيق إن شاء الله
ردحذفممتن
حذف